صورة الغلاف

في معملي خلية “2”… هل أنت كومة من الخلايا..

كم كان يحدوني الشوق للقائها! تلك الحسناء التي تتلون بألوان زاهية وكأنها تتباهى في أفخم الأثواب، تلفها عباءة سوداء تزيد جمالها تألقا وغموضا، يزداد اشراقها وتزدان ألوانها مع كل لحظة تتغير الاضاءة فيها. حاولت التسلُّل إلى حصنها ذات مساء، أخذت منظاري ورحت أراقبها.. الغموض وحده حين يكتنف الأشياء والأشخاص من حولنا يثير شحنات الفضول بدواخلنا.. وغموضها هنا أحيا بداخلي ملايين التساؤلات.

نظرت لي في شموخ قائلة: لماذا تراقبني وأنا منك…؟!! لم أتمالك نفسي لأجيبها بحزم رغم حالة الارتياب التي كانت تسكنني تلك اللحظة منكرا ما قالته: لا أنت لست مني ولا انا منك! الخلية شيئ وأنا شيئ آخر.. لستُ خلية كما تزعمين!!

تومض لي بعبارة ساخرة عد قليلا إلى تاريخك لتعرف ما أقول!! فالتاريخ وحده في احايين كثيرة يلهمنا الصواب!أخذ عقلي يعود أدراجه منغمسا في دهاليز تاريخي ومتاهاته فوجد حقيقة “العلم” التي تقول:

 الإنسان كان مجرد أنصاف خلايا!

 نصف خلية في ظهر أبيه ونصف خلية أخرى في مبيض أمه ثم التقتا في ذلك العرس المهيب ليكتمل نصفاه فيصبح خلية واحدة. ظل السؤال يراودني فالتاريخ يثير ضجيج التساؤلات مع كل معرفة نصل إليها، أين كنت “أنا” حينما كنت ذلك “النصف”؟! وماذا حدث في كل ماقد كان حتى أصبحت أنا وأقصد بـ “أنا” ذلك الإنسان الذي يصول ويجول ويروح ويأتي.. ويخترع.. ويقتل.. وبالفعل كنت أجد إجابة مع كل مرحلة معرفية أصل إليها.

نعم بدأ خلقي من نصف خلية و لم أكن موجودا حينذاك، وعندما التقى النصفان وصارتا خلية واحدة لم أكن موجودا أيضا، انقسمت تلك الخلية متكاثرة بعدد من خلايا أخر ولازلت غير موجود ، وحينما كنت أبحث عن مستقر لي تعلقت برحم أمي لم أكن موجودا، ويوم تكونت المضغة التي هي مجموعة من الخلايا لازلتُ غير موجود أيضا، حتى حين نبض قلبي في أحشائي أولى نبضاته معلنا نقطة انطلاق الحياة لم أكن في دائرة الوجود حتى حين تكونت العظام واكتست لحما لأنها لا زلت مجموعة من الخلايا فقط.. خلايا يمكنها الإحساس والتكاثر والتفاعل ورد الفعل والتواصل مع قريناتها من الخلايا الأخرى والقيام بالعمليات الحيوية لاستمرارية وجودها نعم كل هذا تقوم به الخلايا فرادى أو جماعات بشكل واحد أو بعدة أشكال كل ذلك لا يعني بتاتا أن تلك “الكومة من الخلايا” هي أنا.. لا ليست أنا!!

 تلك “الكومة من الخلايا” التي تسمى جنينا بدأت تعد العدة لتحتويني بين أحضانها، تهيئ لي وسادة الحياة، تفرش لي بين جنباتها أجمل الفرش تزينها بأرقى التصاميم استعدادا “لقدومنا أنا وأنت وجميع البشر والكائنات الحية” ذلك القدوم الميمون.. ميمون بعلوية شأنه وقداسة أمره، فهو أمر الله الذي لا تبديل لكلماته، أمر تلك “الكومة من الخلايا” لتحتويك بين جنباتها وتكون لك الوعاء الذي تظهر من خلاله نواياك، وتبرز من خلاله مواهبك الخيرة وغير الخيرة، وعاء أصم ليس له وظيفة سوى أن يحتويك أنت.. أنا.. هو.. هي..

تتولد فيك غريزة البقاء فتبالغ في تشبثك بالحياة رغم يقينك التام أنها الى فناء.. تطعم تلك “الكومة من الخلايا” ليل نهار.. وتعالجها إن مرضت.. وتسهر على راحتها إن تعبت.. وتتلذذ بشهواتها إذا اكتملت..

*(وإذا تعرض جزء من هذه الخلايا للتلف فإنك تسعى جاهدا لتتخلص منها.. تقتلها بيدك أو بيد غيرك.. تبترها من جسمك.. وترميها في القمامة وقت الضرورة.. لأنك تدرك أنها جزء من تلك “الكومة الخلوية” وليست أنت.. وهي في الواقع كذلك فحين يبتر من جسمك شيء بأي شكل من الأشكال ولأي غرض من الأغراض.. تعود تلك الخلايا خلايا فقط لا تحمل منك شيئا.. لقد انفصلت عنك فلم تعد منك ولم تعد أنت منها.. وحين يتبرع شخص بكليته أو قلبه أو غيرها من أعضاء جسمه ستكون أداة في جسم غيره ولا تمثل من تبرع بها بأي شكل من الأشكال..)

 الخلية حين تنفصل عن الجسم سواء كانت واحدة أو أكثر عضوا أو غير ذلك لم تعد تمثل ذلك الإنسان، بل تعود “كومة من الخلايا” لا أكثر، كومة الخلايا التي تسير بها إلى عملك، وتبدع فيها في تفكيرك، وتصنع بها أدوات لراحتك، ليست أنت فلا تعطها أكثر مما تستحق، أنظر إليها بعين أخرى! بعين أنها أداة لتظهر من خلالها أفضل ما لديك، لتسجد بها بين يدي من وضعك في تلك الكومة، لتتلقى أوامره فتطيعها لا أن تتمرد عليها، لتنفع أخاك فترده عن غيه، لتبتكر بها ما يخلد اسمك ويمجد وجودك، لقد جئت إلى تلك الكومة بغير إرادتك وحين تموت ستغادرها أيضا بغير إرادتك!

أنظر لقوله تعالى متأملا” وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ”. المؤمنون 14

كل الأطوار التي خاضتها تلك الخلايا منذ البدء وحتى كسيت العظام لحما لم يكن لك وجود فلا تجعل من تلك الكومة الخلوية شغلك الشاغل، ولا تسعى فقط لتحقيق رغباتها، هي أداة وجدت لك لتظهر من خلالها عزمك وقوتك وإرادتك فلا تسلمها لها فتخسر خسرانا مبينا، وتندم حين لا ينفع الندم. اجعل منها أداة تقودك إلى الجنة لا أداة تقودك إلى النار..

معلومات المقال

  • مؤلف المقال : د. كامل صالح -- رئيس التحرير
  • تاريخ كتابة المقال : 2021-01-02